ابن
خلدون رجل علم وعمل. هو من أسرة عربية حضرمية كانت هاجرت إلى الأندلس بعيد
الفتح وتوطنت اشبيلية حتى قرب سقوط هذه المدينة في أيدي الإسبان. فجلت
عنها أواسط القرن السابع الهجري في جملة الأسر التي جلت إلى تونس حيث حلّت
وحيث ولد ابن خلدون. وكان بيت ابن خلدون نهاية في علو المكانة ونباهة
العلم. وكان لأفراد هذه الأسرة شأن مرموق في وقعة الزلاقة المشهورة.
نشأ
ابن خلدون نشأة كثير من أمثاله في العالم العربي فربّي تربية دينية
وعلمية. درس العلوم الشرعية وعلوم اللغة العربية كما درس الفلسفة والمنطق
والعلوم العقلية، فجمع بين المنقول والمعقول. وكان المغرب العربي على
اتساعه يعج بالعلماء في كل ميدان، وكان كالأندلس منتجع طلاب العلم من
أوربة زيادة على طلاب العلم من أرجاء المغرب نفسه. وربما يكفي مثل واحد
على هذا الانتجاع. فمن المعلوم أن العالم الرياضي الإيطالي ليوناردو فيبو
ناشي الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي كان ابن تاجر من مدينة بيزا
أتيح له وهو فتى أن يسافر مع أبيه أولاً إلى المغرب فدرس على علمائه
الرياضيات التي كان يسميها العرب علم التعاليم، ثم إلى مصر وسورية
واليونان وصقلية. ولما عاد إلى بيزا نشر كتاباً في الرياضيات ترجم فيه
المعلومات الرياضية وجُمل العد المختلفة وآثر الطريقة العشرية واعتمد
الأرقام العربية وهو الذي أدخلها إلى أوربة واستعمل الصفر أيضاً. وقد شاعت
بعده سلسلة فيبو ناتشي في الرياضيات.
ومن
أهم علماء الرياضيات في زمن ابن خلدون أبو العباس أحمد بن محمد ابن عثمان
المعروف بابن البناء (لأن والده كان بناءً) والموصوف بالعددي (لبراعته في
علم العدد) وأبو عبد الله محمد بن النجار ومحمد بن إبراهيم الآبلي. وهذانما شيوخ ابن خلدون. وقد هلك أبو ابن خلدون وبعض مشايخه في الوباء الأسود الذي اجتاح أوربة ووصل أثره إلى المغرب.
برز
هذا الفتى الناشئ في مختلف الميادين العلمية وجرى على آثار العلماء
المسلمين الموسوعيين. فقد كانوا ينظرون إلى الكون على أنه كلٌّ مشتبك
العناصر والظواهر. فكل دراسة لهم في ميدان قد تفيدهم في دراسة ميدان آخر
ما دامت الظواهر والعناصر متصلاً بعضها ببعض. ولا يعدم الكشف في جانب
عوناً على إيضاح عناصر خفية في جانب آخر. يروى أنه قيل للإمام الشافعي: متى يكون الرجل عالماً؟ قال: إذا تحقق في علم فعلمه وتعرّض لسائر العلوم فنظر فيما فاته فعند ذلك يكون عالماً (1).
ثم
أن من خصائص العلم العربي اقترانه بالعمل. ومن بلاغة اللغة العربية أن
العلم والعمل يتألف كلاهما من حروف واحدة. العلم يستدعي العمل والعمل يزيد
في العلم. ومن أقوالهم: "العلم يهتف بالعمل فإن أجابه أقام وإلا ارتحل." (2).
وهكذا
نجد ابن خلدون لم يكد يناهز العشرين من عمره حتى اجتذبته الحياة
الاجتماعية والسياسية. وكان المغرب يموج بالأحداث السياسية والصروف
الاقتصادية. فلم تكد تنتهي دولة الموحدين حتى قامت فيه إمارات ودويلات
متنافسة من أبرزها بنو حفص في تونس وبنو عبد الواد في تلمسان وبنو مرين في
فاس. وقد اتصل ابن خلدون بهم جميعاً، وشغل عندهم مناصب عالية. رفعته أمواج
السياسة حتى جعلته حاجباً أي وزيراً ثم خفضته حين اتهم بالتآمر على
السلطان أبي عنان فسجن نحو واحد وعشرين شهراً.
برم
ابن خلدون بتلك التقلبات والصروف السياسية في المغرب فرحل إلى غرناطة
بالأندلس، ورحب به بنو الأحمر وتلقاه صديقه لسان الدين بن الخطيب، ووفد
سفيراً إلى ملك قشتالة باشبيلية مقر أجداد ابن خلدون يفاوضه في مهادنة
الغرناطيين ونجح في وفادته. ثم وقعت بينه وبين صديقه لسان الدين وحشة فرجع
إلى المغرب ثم قام برحلة أخرى إلى الأندلس. وتجمعت في صدره خبرة واسعة
نظرية وعملية إلى جانب علمه ولا سيما بالتاريخ وشؤون الدول والمجتمعات
فآثر الاعتزال ولجأ إلى أصدقائه في قلعة ابن سلامة من أعمال بجاية وهي
الآن في الجمهورية الجزائرية مفكراً ومتأملاً وأكب على كتابه مقدمته
المشهورة التي هي الجزء الأول من "كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في
أيام العرب والعجم والبرير ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" وأنهاها في
نحو خمسة أشهر وذلك في سنة 779ه= 1377م. وتدل كتابتها جملة واحدة على أن
عناصرها كانت مكتملة في فكره. ثم جعل ينقحها في الحين تلو الحين، ويتم
كتابة تاريخه.
بيد
أن تناحر الدويلات والإمارات على الرئاسة وعلى كسب المنافع المادية
والإشراف على طرق القوافل ومراكزها وكانت تعبر الصحراء الإفريقية وتيسر
التجارة بين الشرق والغرب والجنوب والشمال وتحمل التوابل والحرير تارة
والذهب تارة أخرى كل ذلك جعله يستشرف نحو آفاق جديدة بعدما تكاملت نظراته
وبحوثه، ويستحب الهجرة إلى مصر إذ كانت أكثر البلاد العربية ازدهاراً. وقد
سبقته شهرة مقدمته إليها. فاستقبل استقبالاً جيداً واتخذها مقاماً صالحاً
بين علمائها ومدارسها وحدائقها، واتصل بالسلطان الظاهر برقوق أول ملوك
المماليك الجراكسة وقام بتدريس الفقه المالكي في بعض مدارسها وولي في
الحين بعد الحين قضاء المالكية. وأرسل إلى أسرته لتلحق به فغرقت في الطريق
البحري. ولم يبرح مصر خلا حجة حجها إلى الحجاز غب غرق أهل بيته وزيارة
قصيرة لبيت المقدس حتى هجوم تيمورلنك على بلاد الشام، إذ ذهب ملك مصر فرج
بن برقوق لمحاربته واستصحب معه فئة من العلماء فيهم ابن خلدون العالم
والسياسي والاجتماعي. ولكن الملك لم يلبث أن انكفأ مسرعاً إلى مصر لما
بلغه نبأ مؤامرة تحاك عليه. فحاول بعض العلماء بدمشق تلافي الأمر ومفاوضة
تيمور على الصلح فلم يتم لهم مرادهم. وكان منهم ابن خلدون الذي وصف في
كتابه وهو تاريخ سيرته "التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً" كيف تدلى
من السور بالقرب من المدرسة العادلية لمفاوضة تيمور. فعرف هذا مكانته في
العلم فأكرمه وأقام عنده نحو خمسة وثلاثين يوماً وعرض تيمور عليه مرافقته
ولكن ابن خلدون اعتذر بلباقة، وآثر الرجوع إلى مقره بمصر.
.../...يتبع